حلم مسيّج بالمدى المفتوح | أرشيف

مظلّيو فصائل المقاومة يجتازون قطاع غزّة نحو الأراضي المحتلّة عام 1948.

 

المصدر: «مجلّة الكرمل».

الكاتب: محمود درويش.

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1983.

 


 

من نيقوسيا، هذه المرّة، يأتي صوتنا. من عنوان مؤقّت في سياق الرحيل الطويل على أرض البشر. لا نبدأ من صفر، بل نواصل البدايات من خلاصة التراكم؛ تراكم التجارب، والتضحيات، والإنجازات، الّتي تصوغ تقاليدها وليست كلماتنا أثقل من هذا الوطن الساحر والمسحور، الّذي يحمله الفلسطينيّ، حتّى آخر الشرط الإنسانيّ، روحًا وجسدًا وفكرة. لذلك لا تلتفت إلى الوراء إلّا لتتعلّم، مرّة أخرى، كيفيّة إضفاء الديمومة على ما صحّ من وسائلنا في العمل، وفي القول، وفي تصويب الخطى، دون أن نحذر الدخول في جحيم النقد الذاتيّ، الّذي يطمح إلى تحقيق تطابق أرقى بين طهارة الرسالة وبين أيدي حامليها. وقد يكون الصليب الّذي وُلِدْنا عليه جميعًا، بين مساميره والخشبة، شيئًا من قَدَر الّذين اختاروا أن يذهبوا في طريق النبوءة، والبشارة، في نشر رسالة الحرّيّة، وتغيير المساحات، والعلاقات والقيم، فرفعوا علامة اختلافهم عمّا يسود من حولهم، هويّة حياتهم أو جوهرها. لهذا، لن يكون لنا مؤقّت أخير، أو غربة أخيرة، أو منفى أخير، إلّا داخل الوطن الّذي نحلم بإبداعه على شاكلة الحلم المسيّج بالمدى المفتوح، القادر على استيعاب الاختلاف والآخر، والتفوّق على مذاق المرارة الّتي تزوّدنا بها مسيرة هذا الحلم الشرس، المفترس، المقدّس.

ونحن الّذين حاورنا ساحة قدرنا، في أكثر من مكان، بتحويلها إلى ميدان امتحانات فذّة، لا ننظر إلى الوراء إلّا لنختبر اليقين بفاعليّة الطريقة، والرسالة، اللّتين حاولنا بهما أن نصوغ حرّيّتنا، ونحرّر ما يجاورنا من انحطاط، وأن نشدّ خيوط الضوء الطالع من دمنا حتّى مداه الأوضح، ليهتزّ، أو ينهار، المفهوم الخامل الّذي احتلّ فكر القارّة السائدة حول المعالجة – النظريّة – لموازين القوى، الّتي يتّكئ على توازنها، الراهن أو المرتقب، كسالى الخيال والإدارة، في محاولة بريئة أو متّهمة، لقتل فكرة الحرّيّة الحيّة في تلهّف هذا الجيل وحرمانه من حيويّة الاختبار، ولإغراء السلاح الحديث – الّذي كُتِبَ علينا أن يملكه سوانا، لأسباب لا تُشْرَح، ولا تُوَضَّح، لأنّ الأمر لا يعنينا – بالقدرة على نشر الفكرة الميّتة في أعدائنا، وفينا، معًا.

وهذا ما يعنينا حين نُطِلّ من منافينا الجديدة على بيروت، الّتي صارت بعيدة، على ما يبدو، عن لبنان وفلسطين وعن ذاتها. نعم، لقد تمكّنا... لقد تمكّن أطفالنا من القتال مائة يوم متواصل، بما امتلكت أيديهم من سلاح تقليديّ حوّلته طاقاتهم الروحيّة إلى سلاح حديث وفتّاك، وعلى مساحة من الأرض لا تزيد عن ثقب الإبرة، قياسًا إلى مساحة القارّة العربيّة الّتي يغطّ عليها عملاق مادّيّ عاجز. نعم، استطعنا، واستطاع أطفالنا أن يتّخذوا آلة السلاح الحديث، أو الأحداث، الّتي يدثّر بها الفكر الميّت، وأن يوجعوا، حتّى البكاء، جنرالات الظلام البشريّ – أو الحيوانيّ – في أطول حصار عرفه تاريخنا المعاصر، حتّى نقلوا وعي الحرّيّة الفلسطينيّة إلى داخل البيت الإسرائيليّ – بيتنا سابقًا – وإلى داخل الفكر الصهيونيّ الّذي اضطرّ للانقسام على نفسه بين: وعي زائف ووعيّ شقيّ. فهل كنّا نعلم أنّ أحدًا لن يتحرّك، ليس من أجل تحسين شروط الصمود، بل من أجل إقناع واشنطن بتوسّل تلّ أبيب أن تفرج، لمدّة ساعة واحدة في الأسبوع، عن مياه بيروت المعتقلة؟ وهل كنّا نفتقر إلى حاسّة انتباه أكثر يقظة لما استطاع النظام العربيّ الواحد... نعم الواحد، أن يحدثه من دون شرخ بين الناس، وبين توثّبهم إلى حرّيّتهم الّتي صار دمنا أحد معاييرها؟

نعم، كنّا ندرك، ولكنّنا لم نقبل الاكتفاء بصمود الإذاعة وحدها، لأنّ ذلك معناه أنّنا كنّا نلعب كما كان سوانا يلعب. وهكذا، وطّدنا الفكرة والإشارة وصواب لغة الصراع. أمّا الأمر الّذي لم ندركه بدقّة، فهو أنّ لنا أبناء بهذه القوّة، الّتي حوّلت معارك لبنان، ومعارك بيروت بخاصّة، إلى أساطير بطولة، وأنّ المحارب الإسرائيليّ المدرّع هشّ وفاسد إلى هذا الحدّ، لأنّه يدافع عن شيء مات فيه، ولأنّ صراع الفكرة الحيّة مع الفكرة الميتة، الّذي يدور بيننا وبين الإسرائيليّين المسيّجين بحلفاء السرّ العربيّ، والمنطوي على حاسّة المصلحة المشتركة على مستوى الأفكار الميّتة، المرشّحة للانبعاث من جثّة الفلسطينيّ، بلغ حالة من نضج الوعي، المحلّيّ والعالميّ، جعلت السلاح قاضيًا من درجة ثانية لا يقوى على احتلال المسرح.

لقد امتدّت الفكرة الفلسطينيّة وانتشرت، خلال هجومها الأسطوريّ في حصار بيروت، إلى مساحة كامل الكون الإنسانيّ، دافعة بالفكرة الصهيونيّة الانعزاليّة – مع أخواتها العربيّات الشقيّات – إلى أضيق حدود الغيتو. وهكذا كان صليبنا الّذي حوّلناه إلى أرض معجزة، مسرحًا في حجم الكرة الأرضيّة، شاهده سكّان القرن العشرين في صالوناتهم ومقاهيهم وغرف نومهم. وصار الموقف من عدل الفلسطينيّ – الضحيّة المقاتلة – أحد المقاييس الّتي لا تُدْحَض لمدى ما يستحقّه المواطن العالميّ من مؤهّلات حرّيّة. لذلك، أيضًا، لا تتّخذ النظرة  إلى الوراء قليلًا شكل الدمعة إلّا على ما تهدره الإمكانيّة العربيّة من طاقات نصر، وما توفّره من شروط عبوديّة واستعباد.

وهكذا أيضًا، لم تكن بيروت رهينتنا، بل كانت ساحة اختبارنا المشترك. ولماذا تكون رهينة؟ وهي مدينة تبحث معنا، ونبحث معها، عن حرّيّة ممكنة، وديمقراطيّة محتملة، لا لأنّها مدينة عربيّة، فذلك مصطلح يخلو تدريجيًّا من الجدوى والمعنى، بل لأنّها كانت تتزوّد بالدلالة الدمويّة، وتتحرّر بقدر ما تقاتل للحرّيّة، ولأنّها كانت مشروع حرّيّة يتبلور في الصراع.

كانت... وكانت، ولم تكن هي، ولا نحن فيها، المسؤولين عن تحوّلها الآن إلى رهينة في أيدي الصهيونيّين – اليهود، أو الصهيونيّين – العرب الّذين يفتقرون إلى أدوات الذبح التكنولوجيّ، فيلجأون إلى السطة لأنّها توفّر وقتًا للنشوة. كانت... وكانت، وقد يُقام الآن بوتيك جديد على قبر كلّ شهيد. وقد يضع الإسرائيليّون بضائعهم إلى جانب جثّتنا. وقد تنشط خيانة بعض المثقّفين، الّذين يشعرون بأنّ شارون جاء لإنقاذهم من الضحالة، فشربوا له، ولدميته المحلّيّة، كأس الانتصار علينا، كما شربوا معنا من قبل. وراحوا يؤمنون الآن بحيويّة دورهم، ويؤسّسون مشروعهم الثقافيّ.

كلّ شيء ممكن، كلّ شيء جائز في هذا العالم العربيّ الخرافيّ الّذي أعاد بيروت إلى الحظيرة. لكنّ بيروت قالت معناها، قالت محاولتها الملحميّة، وما زالت تقول في شرطها الجديد. الاحتلال في كلّ مكان عربيّ، وكلّ وطن منفى. وكلّ إقامة رحيل في الغربة في شروط هذه العلاقات. وفي منفانا الجديد الّذي هو فصل آخر من فصول البحث الفلسطينيّ الأوديسيّ عن صخرة يثبت فوقها، من جديد، قَدِمَ آشيل مواصلًا دورة الصراع سويّة مع نصفه المزروع في أرض فلسطين، الّتي هي موقعنا الراسخ، سنهزم مرّة أخرى إحساس النفي بالإدراك أنّ المنفى الحقيقيّ ليس وضعًا جغرافيًّا.

المنفى هو انفصال الوعي. سنواصل السير في أضيق الممرّات وأشدّ البحار هياجًا. ونحن لا نحمل ذاكرة الورق، فقد لملمنا بعض أوراقنا عن شوارع بيروت. بعضها احترق. بعضها ضاع. وبعضها مزّقناه عن عمد. مزّقنا فيه الأوهام، ولم تكن قليلة. وصحيح أنّنا في المنافي الجديدة لا نملك أرضًا نزرع فيها غرسنا أو شهداءنا، ولكنّنا نملك ما هو هدف العلاقة بين الأرض والإنسان: الحرّيّة، ورسالة الحرّيّة. ونملك ما هو هدف العلاقة بين الإنسان والأرض والتاريخ: إنتاج ثقافة الحرّيّة، وشيئًا من شهادة الأنبياء على عصرهم، حتّى تخلق كلّ قطرة دم لغتها الجديدة، ونشيدها الجديد، الّذي يعيد إنتاج حوافز الحرّيّة، فتكون اللغة ما تكونه وما تقوله معًا. وتكون الحرّيّة في الوطن وفي المنفى معًا. ولا تكون الحرّيّة إلّا ذاتها... لا تكون إلّا الحرّيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.